فصل: فصل في أن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في نظر أهل الجنة إلى ربهم تبارك وتعالى:

عن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟» قَالُوا: لا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟» قَالُوا: لا، قَالَ: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ» فذكر الْحَدِيث بطوله. رواه البخاري، ومسلم.
وَعَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنْ النَّارِ؟ - قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إليهِمْ مِنْ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ – ثُمَّ تلا هذه الآيَة: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}». رواه مسلم، والترمذي، والنسائي.
وَعَنْ أَبِي مُوسى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ خَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ، عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلاً، فِي كُلّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ مَا يَرَوْنَ الآخَرِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهمْ الْمُؤْمِنُونَ، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلا رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ». رواه البخاري، واللفظ له، ومسلم، والترمذي.
وَرُوِيَ عَنْ جَابِر بِنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مَجْلِسٍ لَهُمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ عَلَى بَابِ الجَنَّةِ، فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ تَبَاركَ وَتَعَالَى قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهمْ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ سلوني، فَقَالُوا: نسألك الرِّضَا عنا، قال: رضائي أحلكم داري، وأنالكم كرامتي، وهَذَا أوانها فسلوني، قَالُوا: نسألك الزيادة، قال: فيؤتون بنجائب من ياقوت أحمر أزمتها من زمرد أخضر، وياقوت أحمر، فيحملون عَلَيْهَا، تضع حوافرها عَنْدَ منتهى طرفها، فيأمر الله عَزَّ وَجَلَّ بأشجار عَلَيْهَا الثمار، فتجيء حوراء من الحور العين وهن يقلن: نَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلا نَبْأَسُ، نَحْنُ الخالدات فلا نموت، أزواج قوم مؤمنين كرام، ويأمر الله عَزَّ وَجَلَّ بكثبان من مسك أبيض، فينشر عَلَيْهمْ ريحًا يُقَالُ: لها: المثيرة، حتى تنتهي بِهُمْ إلى جنة عدن، وهي قصبة الْجَنَّة، فَتَقُول الملائكة: يا ربنا قَدْ جَاءَ القوم، فَيَقُولُ: مرحبًا بالصادقين، مرحبًا بالطائعين. قال: فيكشف لَهُمْ الحجاب، فينظرون إِلَى اللهِ تبارك وتَعَالَى، فيتمتعون بنور الرحمن، حتى لا ينظر بَعْضهمْ بعضًا، ثُمَّ يَقُولُ: أرجعوهم القصور بالتحف، فيرجعون وقَدْ أبصر بَعْضهمْ بعضًا، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذَلِكَ قوله: {نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ}». رواه أبو نعيم، والبيهقي، واللفظ له، وَقَالَ: وقَدْ مضى في هَذَا الْكِتَاب، يعني: في كتاب البعث، وفي كتاب الرؤية ما يؤكد ما روي في هَذَا الخبر. انتهى.
وَهُوَ عَنْدَ ابن ماجة، وابن أبي الدُّنْيَا مختصر قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ جلَّ جَلالهُ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فَلا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْء مِمَّا فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إليه، حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ، وَتَبْقَى فِيهِم بَرَكَتُهُ وَنُورُهُ». هَذَا لَفْظُ ابْنُ مَاجَة، وَالآخرُ بِنَحْوِهِ.
عن أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «جَاءَ جبريل عَلَيْهِ السَّلام وفي يده مرآة بيضاء فيها نكتة سوداء، فقُلْتُ: ما هذه يا جبريل؟ قال: هذه الْجُمُعَة يعرضها عَلَيْكَ ربك لتَكُون لك عيدًا ولقومك من بعدك، تَكُون أَنْتَ الأول، وتَكُون اليهود والنَّصَارَى من بعدك، قال: مالنا فيها؟ قال: فيها خَيْر لكم، فيها ساعة من دعا ربه فيها بخَيْر – هُوَ له قسم- إِلا أعطاه إياه، أو لَيْسَ بقسم إِلا ادخر له ما هُوَ أعظم منه، أو تعوذ فيها من شر هُوَ عَلَيْهِ مكتوب إِلا أعاذه، أو لَيْسَ عَلَيْهِ مكتوب إِلا أعاذه من أعظم منه، قُلْتُ: ما هذه النكتة السوداء فيها؟ قال: هذه الساعة تقم يوم الْجُمُعَة، وَهُوَ سيد الأيام عندنا، ونَحْنُ ندعوه في الآخِرَة: يوم المزيد. قال: قُلْتُ: لم تدعونه يوم المزيد؟ قال: إن ربك عزَّ وجل اتخذ في الْجَنَّة واديًا أفيح من مسك أبيض، فإذا كَانَ يوم الْجُمُعَة نزل تبارك وتَعَالَى من عليين، فجلس على كرسيه، ثُمَّ حف الكرسي بمنابر من نور، وجَاءَ النبيون حتى يجلسوا عَلَيْهَا، ثُمَّ يجيء أَهْل الْجَنَّة حتى ينظروا إلى وجهه، وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا الَّذِي صدقتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، هَذَا محل كرامتي فسلوني، فيسألونه الرِّضَا، فَيَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: رضاي أحلكم داري، وأنالكم كرامتي، فسلوني، فيسألونه حتى تنتهي رغبتهم، فيفتح لَهُمْ عَنْدَ ذَلِكَ ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، إلى مقدار منصرف النَّاس يوم الْجُمُعَة، ثُمَّ يصعد الرب تبارك وتَعَالَى على كرسيه، فيصعد معه الشهداء والصديقون». أحسبه قال: «ويرجع أَهْل الغرف إلى غرفهم، درة بيضاء، لا فصم فيها ولا وصم، أو ياقوتة حمراء، أو زبرجدة خضراء منها غرفها، وأبوابها، مطردة فيها أنهارها، متدلية فيها ثمارها، فيها أزواجها وخدمها، فليسوا إلى شَيْء أحوج مِنْهُمْ إلى يوم الْجُمُعَة ليزداد فيه كرامة، وليزدادوا فيه نظرًا إلى وجهه تبارك وتَعَالَى ولذَلِكَ دعي يوم المزيد». رواه ابن أبي الدُّنْيَا، والطبراني في الأوسط بإسنادين، أحدهما: جيد قوي، وأبو يعلى مختصرًا ورواته رواة الصحيح، والبزار، واللفظ له.
قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ:
أَوَ مَا سَمِعْتَ بِشَأْنِهِمْ يَوْمَ الْمَزِيـ ** دِ وَأَنَّهُ شَانٌ عَظِيمُ الشَّانِ

هُوَ يَوْمُ جُمْعَتِنَا وَيَوْمَ زِيَارَةِ الـ ** ـرَّحْمَنِ وَقْتَ صَلاتِنَا وَأَذَانِ

وَالسَّابِقُونَ إِلَى الصَّلاةِ هُمْ الأُولَى ** فَازُوا بِذَاكَ السَّبْقِ بِالإِحْسَانِ

سَبْقٌ بِسَبْقٍ وَالْمُؤَخَّرُ هَا هُنَا ** مُتَأَخَّرٌ فِي ذَلِكَ الْمَيْدَانِ

وَالأَقْرَبُونَ إِلَى الإِمَامِ فَهُمْ أُولُو ** الزُّلْفَى هُنَاكَ فَهَا هُنَا قُرْبَانِ

قُرُبٌ بِقُرْبٍ وَالْمُبَاعَدُ مِثْلُهُ ** بُعْدٌ بِبُعْدٍ حِكْمَةُ الدَّيَّانِ

وَلَهُمْ مَنَابِرُ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ ** وَمَنَابِرُ إلياقُوتِ وَالْعِقْيَانِ

هَذَا وَأَدْنَاهُمْ وَمَا فِيهِمْ دَنِي ** مِن فَوْقَ ذَاكَ الْمِسْكِ كَالْكُثْبَانِ

مَا عِنْدَهُمْ أَهْلُ الْمَنَابِرِ فَوْقَهُمْ ** مِمَّا يَرَوْنَ بِهِمْ مِنَ الإِحْسَانِ

فَيَرَوْنَ رَبَّهُمْ تَعَالَى جَهْرَةً ** نَظَرَ الْعِيَانِ كَمَا يُرَى الْقَمَرَانِ

وَيُحَاضِرُ الرَّحْمَنُ وَاحِدَاهُمْ مُحَا ** ضَرَةَ الْحَبِيب يَقُولُ يَا ابْنَ فُلانِ

هَلْ تَذْكُرُ اليوم الَّذِي قَدْ كُنْتَ فِيـ ** ـهِ مُبَارِزًا بِالذَّنْبِ وَالْعِصْيَانِ

فَيَقُولُ رَبِّ أَمَا مَنَنْتَ بِغَفْرَةٍ ** قِدْمًا فَإِنَّكَ وَاسِعُ الْغُفْرَانِ

فَيُجِيبُهُ الرَّحْمَنُ مَغْفِرَتِي الَّتِي ** قَدْ أَوْصَلَتْكَ إِلَى الْمَحَل الدَّانِي

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لِكِتَابِكَ مِنْ التَّإلينِ وَلكَ بِهِ مِنْ العاملينَ وَبِمَا صَرَّفْتَ فِيهِ مِنْ الآيات مُنْتَفِعينِ وَإلى لَذِيذِ خِطَابِه مُسْتَمِعينَ وَلأوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ خَاضِعين وَبِالأَعْمَالِ مُخْلِصِين، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ قَوِّي إِيمَانِنَا بِكَ وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ، اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوب ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ، وَأَمِّنَّا مَنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْرِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

.موعظة:

عباد الله يجب عليكم أن تعلموا أنكم ما دمتم في هذه الدار فأنتم في دار المعاملات، وأن لكم درًا أخرى أبدية، فيها تستوفون مالكم على هذه المعاملات من جزاءات، فإن أحسنتم هنا أو أسأتم، كَانَ جزاؤكم هناك إحسانَا أو إساءات، هكَذَا وعدكم ربكم، وَهُوَ عليم بكل الأعمال، وعلى جزائكم عَلَيْهَا قدير، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}، وَقَالَ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}، وَقَالَ: {يَوْمَ تَأْتِي كُلّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} من هَذَا قاطعًا تعلم أن شأن هذه المعاملات عَظِيم عظمًا لا يعرف قدره إِلا الرجل العاقل، الْبَعِيد النظر الحكيم، فإن عَلَيْهَا يترتب غضب الله وعقابه أو رضاه، والنَّعِيم الْمُقِيم، وشَيْء هَذَا قدره لا يتوقف ولا يتردد في بذل العناية به رجل بصير، وهذه المعاملات تارة تكون بينكم وبين الله، وتارة تكون مع عباد الله، فأما المعاملة مَعَ الله جَلَّ وَعَلا فبأن تسمَعَ وتطيع فيما أمر ونهى، وأما معاملتك مَعَ عباد الله الْمُؤْمِنِين، فبأن تحب لَهُمْ ما تحب لنفسك، وَذَلِكَ بأن تجعل نفسك ميزانَا في معاملة كبيرهم وصغيرهم، أَنْتَ تكره إساءتهم لك وتحب إحسانهم، فاحذر إساءتهم، وعاملهم بالإحسان، وكما تكره أن يمسوا مالك بسوء، فلتكن أموالهم منك في أمان، وكما تكره أن يتعرضوا لأولادك وأهلك وشخصك بشر، فكن لَهُمْ خَيْر حفيظ ونصير، وكما تحب أن يريحوك إذا جاوروك، فأرحهم عَنْدَ مجاورتك لَهُمْ، وكما تحب أن ينصحوك ويصدقوك في وعودهم وعقودهم وأخبارهم، فاسبقهم أَنْتَ إلى ذَلِكَ، وكما تحب أن يفرحوا لفرحك، ويحزنوا لحزنك، فكن أَنْتَ كَذَلِكَ معهم، وكما تحب أن لا يتكلموا فيك إلا بخَيْر، فلا تكن أَنْتَ معهم بضد ذَلِكَ، وقس على ذَلِكَ ما يتعلق بالموضوع، وأما معاملتك مَعَ نفسك، فهي أن تعودها دائمًا على الْخَيْر بلا ضجر.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْحَقَّ أَبْلَجُ لائِحُ ** وَأَنَّ لِجَاجَاتِ النُّفُوسِ جَوائِحُ

إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَكْفُفْ عَنِ النَّاسِ شَرَّهُ ** فَلَيْسَ لَهُ مَا عَاشَ مِنْهُمْ مُصَالِحُ

إِذَا كَفَّ عَبْدُ اللهِ عَمَّا يَضُرُّهُ ** وَأَكْثَرَ ذِكْرَ اللهِ فَالْعَبْدُ صَالِحُ

إِذَا الْعَبْدُ لَمْ يَمْدَحْهُ حُسْنُ فِعَالِهِ ** فَلَيْسَ لَهُ وَالْحَمْدُ للهِ مَادِحُ

إِذَا ضَاقَ صَدْرُ الْمَرْءِ لَمْ يَصْفُ عَيْشُهُ ** وَمَا يَسْتَطِيبُ الْعَيْشَ إِلا الْمُسَامِحُ

وَبَيْنَا الْفَتَى وَالْمُلْهِيَاتُ يُذِقْنَهُ ** جِنَى اللَّهْوِ إِذْ نَاحَتْ عَلَيْهِ النَّوَائِحُ

وَإِنَّ امْرأً أَصْفَاكَ فِي اللهِ وُدَّهُ ** وَكَانَ عَلَى التَّقْوَى مُعِينًا لِصَالِحُ

وَإِنَّ أَلَبَّ النَّاسِ مَنْ كَانَ هَمُّهُ ** بِمَا شَهِدَتْ مِنْهُ عَلَيْهِ الْجَوَارِحُ

اللَّهُمَّ عَامِلَنَا بِلُطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ، ووفقنا لطَاعَتكَ ومرضاتك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجمَِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين غير خزايا ولا مفتونين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجمَِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

.فصل في ذكر فضائل يوم الجمعة:

وروي عن حذيفة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتاني جبريل، فإذا في كفه مرآة كأصفى المرايا وأحسنها، وإذا في وسطها نكتة سواداء، قال: قُلْتُ: يا جبريل ما هذه؟ قال: هذه الدُّنْيَا صفاؤها وحسنها، قال: قُلْتُ: وما هذه اللمعة السوداء في وسطها؟ قال: قال هذه الْجُمُعَة قال: قُلْتُ: وما الْجُمُعَة: قال: يوم من أيام ربك عَظِيم، وسأخبرك بشرفه وفضله واسمه في الدُّنْيَا والآخِرَة، أما شرفه وفضله واسمه في الدُّنْيَا، فإن الله تبارك وتَعَالَى جمَعَ فيه أمر الخلق وأما ما يرجى فيه، فإن فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم أو أمة مسلمة يسألان الله فيها خيرًا إِلا أعطاها إياه، وأما شرفه وفضله واسمه في الآخِرَة فإن الله تَعَالَى إذا صير أَهْل الْجَنَّة إلى الْجَنَّة، وأدخل أَهْل النار النار، وجرت عَلَيْهمْ أيامها وساعتها، لَيْسَ بها ليل ولا نهار إِلا قَدْ علم الله مقدار ذَلِكَ وساعته، فإذا كَانَ يوم الْجُمُعَة في الحين الَّذِي يبرز أو يخَرَجَ فيه أَهْل الْجُمُعَة، نادى مناد: يا أَهْل الْجَنَّة أخرجوا إلى دار المزيد، لا يعلم سعتها وعرضها وطولها إِلا الله عَزَّ وَجَلَّ، فيخرجون في كثبان من المسك»، قال حذيفة: وإنه لهو أشد بياضًا من دقيقكم هَذَا، قال: فيخَرَجَ غلمان الأنبياء بمنابر من نور، ويخَرَجَ غلمان الْمُؤْمِنِين بكراسي من ياقوت، قال: فإذا وضعت لَهُمْ، وأخذ القوم مجالسهم، بعث الله تبارك وتَعَالَى عَلَيْهمْ ريحًا تدعى المثيرة، تثير عَلَيْهمْ أثابير المسك الأَبْيَض، فتدخله من تحت ثيابهم، وتخرجه في وجوههم وإشعارهم، فتلك الريح أعلم كيف تصنع بذَلِكَ المسك، من امرأة أحدكم لو دفع إليها كُلّ طيب على وجه الأَرْض لكأَنْتَ تلك الريح أعلم كيف تصنع بذَلِكَ المسك، من تلك المرأة لو دفع إليها ذَلِكَ الطيب بإذن الله عَزَّ وَجَلَّ، قال: ثُمَّ يوحي الله سُبْحَانَهُ إلى حملة العرش فيوضع بين ظهراني الْجَنَّة، وبينه وبينهم الحجب فيكون أول ما يسمعون منه أن يَقُولُ: أين عبادي الَّذِينَ أطاعوني بالغيب ولم يروني، وصدقوا رسلي، واتبعوا أمري، فسلوني فهَذَا يوم المزيد. قال: فيجتمعون على كلمة واحدة: رب رضينا عَنْكَ، فارض عنا، قال: فيرجع الله تَعَالَى في قولهم: أن يا أَهْل الْجَنَّة إني لو لم أرض عنكم لما أسكنتكم جنتي فسلوني فهَذَا يوم المزيد، قال: فيجتمعون على كلمة واحدة: رب وجهك أرنا ننظر إليه. قال: فيكشف الله تبارك وتَعَالَى تلك الحجب ويتجلى لَهُمْ، فيغشاهم من نوره شَيْء، لو أنه قضى عَلَيْهمْ أن لا يحترقوا مِمَّا غشيهم من نوره، قال: ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: ارجعوا إلى منازلكم، قال: فيرجعون إلى منازلهم، وقَدْ خفوا على أزواجهم، وخفين عَلَيْهمْ، مِمَّا غشاهم من نوره. انتهى.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةِ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ هل نرى ربنا؟ قال: نعم، هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟ قلنا: لا، قال: «كَذَلِكَ لا تتمارون في رؤية ربكم عَزَّ وَجَلَّ ولا يبقى فذ يدلك المجلس أحد إِلا حاضره الله عَزَّ وَجَلَّ محاضرة حتى أن يَقُولُ للرجل منكم: ألا تذكر يا فلان يوم عملت كَذَا وَكَذَا يذكره بعض غدراته في الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: يا رب أفلم تغفر لي فَيَقُولُ: بلى فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه فبينما هم كَذَلِكَ غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عَلَيْهمْ طيبًا لم يجدوا مثل ريحه شَيْئًا قط ثُمَّ يَقُولُ: قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم، قال: فنأتي سوقًا قَدْ حفت به الملائكة فيه ما لم تنظر العيون إلى مثله ولم تسمَعَ الآذان ولم يخطر على القُلُوب، قال: فيحمل لنا ما اشتهينا لَيْسَ يباع فيه شَيْء ولا يشتَرَى وفي ذَلِكَ السوق يلقى يلقى أَهْل الْجَنَّة بَعْضهمْ بعضًا، فيقبل الرجل ذو المنزلة المرتفعة فيلقى من هُوَ دونه وما فيهم دني فيروعه ما يرى عَلَيْهِ من اللباس فما ينقص آخر حديثه حتى يتمثل له عَلَيْهِ أحسن منه وَذَلِكَ أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها قال: ثُمَّ ننصرف إلى منازلنا فتلقانَا أزواجنا، فيقلن: مرحبًا وأهلاً لَقَدْ جئت وإن بك من الجمال والطيب أفضل مِمَّا فارقتنا عَلَيْهِ فنقول: أَنَا جالسنا اليوم ربنا الجبار عَزَّ وَجَلَّ ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا».
قال ابن القيم في سوق الْجَنَّة:
فَيَقُولُ جَلَّ جَلالُهُ قُومُوا إِلَى ** مَا قَدْ ذَخَرْتُ لَكُمْ مِنَ الإِحْسَانِ

يَأْتُونَ سُوقًا لا يُبَاعُ وَيُشْتَرَى ** فِيهِ فَخُذْ مِنْهُ بِلا أَثْمَان

قَدْ أَسْلَفَ التُّجَّارَ أَثْمَانَ الْمَبِيـ ** ـعِ بِعَقْدِهِمْ فِي بيعةِ الرِّضْوَانِ

للهِ سُوقٌ قَدْ أَقَامَتُهُ الْمَلا ** ئِكَةُ الْكِرَامُ بِكُلِّ مَا إِحْسَانِ

فِيهِ الَّذِي وَاللهِ لا عَيْنٌ رَأَتْ ** كَلا وَلا سَمِعَتْ بِهِ أُذُنَانِ

كَلا وَلَمْ يَخْطُر عَلَى قَلْبِ امْرِئٍ ** فَيَكُونُ عَنْهُ مُعْبِرًا بِلِسَانِ

فَيَرَى امْرَأً مِنْ فَوْقَهُ فِي هَيْئَةٍ ** فَيَرُوعُهُ مَا تَنْظُرُ الْعَيْنَانِ

فَإِذَا عَلَيْهِ مِثْلُهَا إِذْ لَيْسَ يَلْـ ** ـحَقُ أَهْلَهَا شَيْءٌ مِن الأَحْزَانِ

وَاهًا لِذَا السُّوقِ الَّذِي مِن حَلَّهُ ** نَالَ التَّهَانِي كُلَّهَا بِأَمَانِ

يُدْعَى بِسُوقِ تَعَارُفٍ مَا فِيهِ مِنْ ** صَخَبٍ وَلا غِشٍّ وَلا أَيْمَانِ

وَتِجَارَةٍ مَنْ لَيْسَ تُلْهِيهِ تِجَا ** رَاتٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ الرَّحْمَنِ

أَهْلُ الْمُرُوءَةِ وَالْفُتُوَّةِ وَالتُّقَى ** وَالذِّكْرِ لِلرَّحْمَنِ كُلَّ أَوَانِ

يَا مَنْ تَعَوَّضَ عَنْهُ بِالسُّوقِ الَّذِي ** رُكزَتْ لَدَيْهِ رَايَةُ الشَّيْطَانِ

لَوْ كُنْتَ تَدْرِي قَدْرَ ذَاكَ السُّوق لِمْ ** تَرْكَنْ إِلَى سُوق الْكَسَادِ الْفَانِي

اللَّهُمَّ انْظِمْنَا فِي سِلْكِ عِبَادِكَ الْمُفْلِحِينَ وَنَجِّنَا مِن لَفَحَاتِ الجَحِيمِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

.فصل في أن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا:

اعْلَمْ أن الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى اختار من كُلّ جنس من أجناس المخلوقات أطيبه. واختصه لنفسه وارتضاه دون غيره، فإنه تَعَالَى طيب لا يحب إِلا الطيب، ولا يقبل من الْعَمَل والكلام والصدقة إِلا الطيب، فالطيب من كُلّ شَيْء هُوَ مختاره تَعَالَى، وأما خلقه تَعَالَى فعام للنوعين.
وبهَذَا يعلم عنوان سعادة الْعَبْد وشقائه، فإن الطيب لا يناسبه إِلا الطيب ولا يرضى إِلا به، ولا يسكن إِلا إليه، ولا يطمئن قَلْبهُ إِلا به، فله من الكلم الطيب الَّذِي لا يصعد إِلَى اللهِ تَعَالَى إلا هُوَ، وَهُوَ أشد شَيْء نفرة عن الفحش في المقال، والتفحش في اللسان والبذاء، والكذب والغيبة والنميمة والبهت وقول الزور، وكل كلام خبيث.
وكَذَلِكَ لا يألف من الأعمال إِلا أطيبها وهي الأعمال التي اجتمعت على حسنها الفطر السليمة مَعَ الشرائع النبوية، وزكتها العقول الصحيحة. فاتفق على حسنها الشرع والعقل والفطرة.
مثل أن يعبد الله وحده لا يشرك به شَيْئًا، ويؤثر مرضاته على هواه، ويتحبب إليه جهده وطاقته، ويحسن إلى خلقه ما استطاع، فيفعل بِهُمْ ما يحب أن يفعلوه به، ويعاملهم بما يجب أن يعاملوه به، ويدعهم مِمَّا يجب أن يدعوه منه.
وينصحهم لما ينصح به نَفْسهُ، ويحكم لَهُمْ بما يجب أن يحكم له به، ويحمل أذاهم ولا يحملهم أذاه، ويكف عن أعراضهم ولا يقابلهم بمثل ما نالوا من عرضه، وإذا رأى لَهُمْ حسنًا أذاعه وإذا رأى لَهُمْ سيئًا كتمه، ويقيم أعذارهم ما استطاع فيما لا يبطل شريعة، ولا يناقض الله أمرًا ولا نهيًا.
وله أيضًا من الأَخْلاق أطيبها وأزكاها، كالحلم والوقار والسكينة، والرحمة والصبر والوفاء، وسهوله الجانب ولين العريكة والصدق وسلامة الصدر من الغل والغش والحقَدْ والحسد، والتواضع وخفض الجناح لأَهْل الإِيمَان.
والعزة والغلظة على أعداء الله وصيانة الوجه عن بذله وتذلله لغير الله والعفة والشجاعة والسخاء والمروءة. وكل خلق اتفقت على حسنه الشرائع والفطر والعقول.
وكَذَلِكَ لا يختار من المطاعم إِلا أطيبها وَهُوَ الحلال الهنيء المريء الَّذِي يغذي البدن والروح أحسن تغذية، مَعَ سلامة الْعَبْد من تبعته. وكَذَلِكَ لا يختار من المناكح إِلا أطيبها وأزكاها. ومن الرائحة إِلا أطيبها وأزكاها. ومن الأصحاب والعشراء إِلا الطيبين مِنْهُمْ.
فروحه طيب وبدنه طيب، وخلقه طيب، وعمله طيب، وكلامه طيب، ومطعمه طيب، ومشربه طيب، وملبسه طيب، ومنكحه طيب، ومدخله طيب ومخرجه طيب، ومنقَلْبهُ طيب، ومثواه كله طيب.
فهَذَا ممن قَالَ اللهُ تَعَالَى فيه: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ومن الَّذِينَ يَقُولُ لَهُمْ خزنة الْجَنَّة: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}.
وهَذَا الفناء تقتضي السببية، أي بسبب طيبكم ادخلوها. وَقَالَ تَعَالَى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} وقَدْ فسرت الآيَة بأن الكلمات الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ، والكلمات الطَّيِّبَاتُ، للطَّيِّبِينَ، وفسرت بأن النساء َالطَّيِّبَاتُ للرِجَال الطَّيِّبِينَ، والنساء الْخَبِيثَاتُ للرِجَال اِلْخَبِيثِينَ، وهي تعم ذَلِكَ وغيره.
فالكلمَاتَ والأعمال والنساء الطيبات لمناسبها من الطيبين والكلمَاتَ والأعمال والنساء الخبيثات لمناسبها الخبيثين. وَاللهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى جعل الطيب بحذافيره في الْجَنَّة، وجعل الخبيث بحذافيره في النار. فجعل الدور ثلاثة:
دار أخلصت للطيبين، وهي حرام على غير الطيبين. وقَدْ جمعت كُلّ طيب، وهي الْجَنَّة.
ودار أخلصت للخبيثين والخبائث، ولا يدخلها إِلا الخبيثون، وهي النار.
ودار امتزج فيها الطيب والخبيث وخلط بينهما وهي هذه الدار.
ولهَذَا وقع الابتلاء والمحنة بسبب هَذَا الامتزاج والاختلاط، وَذَلِكَ بموجب الحكمة الإلهية. فإذا كَانَ يوم معاد الخليقة ميز الله الخبيث من الطيب.
فجعل الطيب وأهله في دار على حدة لا يخالطهم غيرهم، وجعل الخبيث وأهله في دار على حدة لا يخالطهم غيرهم، فعاد الأَمْر إلى دارين فقط: الْجَنَّة، وهي دار الطيبين، والنار: وهي دار الخبيثين.
وأنشأ الله تَعَالَى من أعمال الفريقين ثوابهم وعقابهم، فجعل طيبات أقوال هؤلاء وأعمالهم وأخلاقهم هِيَ عين نعيمهم ولذاتهم، فأنشأ لَهُمْ منها أكمل أسباب النَّعِيم والسرور. وجعل خبيثات أقوال الآخرين وأعمالهم وأخلاقهم هِيَ عين عذابهم وآلامهم فأنشأ لَهُمْ منها أعظم أسباب العقاب والآلام، حكمة بالغة، وعزة باهرة قاهرة، ليرى عباده كمال ربوبيته، وكمال حكمته وعلمه وعدله ورحمته، وليعلم أعداؤه أنهم كَانُوا هم المفترين الكذابين، لا رسله البررة الصادقون قال الله تَعَالَى: {وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ}.
والمقصود أن الله سُبْحَانَهُ جعل للسعادة والشقاء عنوانَا يعرفان به. فالسَّعِيد الطيب لا يليق به إِلا طيب، ولا يأتي إِلا طيبًا، ولا يصدر منه إِلا طيب، ولا يلبس إِلا طيبًا، والشقي الخبيث لا يليق به إِلا الخبيث، ولا يأتي إِلا خبيثًا ولا يصدر منه إِلا الخبيث.
فالخبيث: يتفجر من قَلْبهُ الخبث على لِسَانه وجوارحه. والطيب: يتفجر من قَلْبهُ الطيب على لِسَانه وجوارحه، وقَدْ يكون في الشخص مادتان، فأيهما غلب عَلَيْهِ كَانَ من أهله، فإن أراد الله به خيرًا طهره من المادة الخبيثة قبل الموافاة، فيوافيه يوم القيامة مطهرًا فلا يحتاج إلى تطهيره بالنار.
فيطهره منها بما يوفقه له من التوبة النصوح، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة حتى يلقى الله وما عَلَيْهِ خطيئة. ويمسك عن الآخِر مواد التطهير، فيلقاه يوم القيامة بمادة خبيثة ومادة طيبة، وحكمته تَعَالَى تأبى أن يجاوره أحد في داره بخبائثه، فيدخله النار طهرة له، وتصفية وسبكًا، فإذا خلصت سبيكة إيمانه من الخبث صلح حينئذٍ لجواره ومساكنة الطيبين من عباده.
وإقامة هَذَا النوع من النَّاس في النار على حسب سرعة زَوَال تلك الخبائث مِنْهُمْ وبطئها فأسرعهم زوالاً وتطهيرًا أسرعهم خروجًا، جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد.
وما كَانَ المشرك خبيث العنصر خبيث الذات لم تطهر النار خبثه، بل لو خَرَجَ منها لعاد خبيثًا كما كَانَ كالكلب إذا دخل البحر ثُمَّ خَرَجَ منه فلذَلِكَ حرم الله تَعَالَى على المشرك الْجَنَّة. ولما كَانَ المُؤْمِن الطيب المطيب مبرًا من الخبائث، كأَنْتَ النار حرامًا عَلَيْهِ، إذا لَيْسَ فيه ما يقتضي تطهيره بها.
فسبحان من بهرت حكمته العقول والألباب، وشهدت فطر عباده وعقولهم بأنه أحكم الحاكمين ورب العالمين، لا إله إِلا هُوَ.
وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَمَ.